عمارة العجائب
مرسل: الأحد 15 ديسمبر 2024 6:04 pm
" أمي هذا السندويتش غير لذيذ " ... جملة إلتقطتها عصافير بطني ... تبعت مصدرها ... ولد صغير يجاور أمه ... شورت وقميص عليها رسوم متحرّكة ... مربع أصفر بعيون زرقاء يرتدي شورت بني وحذاء أسود ...
كثرة تذمّره تنبأ بإقتراب الفرج لإعتصار أمعائي ... كل حواسي ترقب الحركة على المقعد المجاور لي ... لم يخب تقديري ... العادة التونسية الأصيلة في التخلّص من شيء غير مرغوب ... سيدة في بداية الثلاثينات تبتعد تمسك يد إبنها ذي السبع أو الست سنين ... خطوات واثقة ثابتة حثيثة توهم الناس أنها لم تفعل شيئا ...
إلتقاتة حذرة منها تراقب ما تركته على المقعد ثم نظرة عن يمين وشمال وإنطلقت مسرعة لتبتعد عن مكان جريمتها ... جرائم قوم عند قوم ولائم ... قفزت بسرعة للمقعد المجاور ... يدي تتسلّل بحذر وخجل تتحسس الكيس البلاستكي المهمل على خشب المقعد ...
مجموعة من الفتيان يملأ صراخهم المكان أجّلت معرفة نتيجة غنيمتي ... نصف سندويتش قضمه الطفل بإهمال ... فتحته ... لم أنظر ما بداخله ... المهم أن يملأ بطني .... رفعت رأسي للجهة المقابلة في الطريق ... علبة عصير صغيرة مهملة على حافته ... مقاومتها لهبّات الرياح الخفيفة تؤكّد إحتوائها على كمية منه ... الجوع علمني قوانين الفيزياء ...
تأبّطت حقيبتي الصغيرة وكيس الأكل ... خطوات ثابتة قطعت بها الطريق وبسرعة إلتقطت العلبة وهربت من ذلك المكان .... خشيت عينا فضولية تتبعني فيزيد الإحراج في ربط عقدة تخنق روحي الهامدة أصلا ...
حديقة البلفيدير في العاصمة هي المتنفّس الأخضر الوحيد لأهلها ... حديقة الحيوان ... كنت أسمع بها ... أردت الدخول لكن الحارس طلب مني دفع الثمن ... أصلا كل ما تبقى لي هي ورقة ذات 20 دينار أخفيتها بعناية حتى موعد الحافلة للعودة لقريتي ...
أصلا هي لا تغطي مصاريف عودتي ... كنت أخطط لركوب الحافلة للعودة للمدينة القريبة ثم سأمشي على قدمي للعودة لبيتي ... يكفيني ما نلت من مغامرتي هذه ... أسبوعان أتخبّط فيهما بين الشوارع علي أجد عملا ... فلم أجد ما أسد به جوعي سوى ما تجود به القمامة أو ما يهمله أحدهم ... حبست دمعة قهر تتسلل من جفني ...
شجرة فارعة في المساحة الخضراء المجانية حول الحديقة كانت ملجئي ... جلست تحتها أتناول ما تركه لي ذلك الطفل ... بدأت أصارع نفسي أن لا تقرف منه ... رشفات من العصير الذي تغيّر طعمه من اثر تركه في الشمس ...
هدأ جوع بطني ... وبدأت حرب ضميري ... ألم اقلّ لك لا تذهب ؟؟؟ ليتك سمعت الكلام قبل مغامرتك ؟؟؟ ليتك بقيت في القرية ؟؟؟ كنت ستوفّر ما أنفقت في رحلتك هذه ؟؟؟ ستعود خالي الوفاض ... ستثقل روحك من سخرية الجيران منك ؟؟؟
أسنان عم صلاح الصفراء وهو يضحك من خيبتي كأنياب دراكولا تثقب أوردتي ... صلاح ذلك الرجل الذي يفهم كل شيء سيجعلني محور جلساته تحت الشجرة وهو يلعب الخربع¨ة... لعبة شعبية تلعب بالحجارة ... يقول صلاح دائما أنه بطل العالم فيها ...
حركة خفيفة على العشب بجانبي جعلتني أرفع رأسي ... عصفور الدوري المعروف عندنا بالبضويش أو البزويش ... يلتقط فتات الخبز الذي تساقط من لمجتي الملتقطة ...
دورة الحياة مضحكة في هذه العاصمة ... إلتقاط الفتات ... لم أصل أصلا لأتساوى مع هذا العصفور ... هو بنى عشا يأوي له عند الليل ... أنا لم أنم منذ مدّة ... لا البرد ولا الخوف ولا الرصيف سمحى لي بذلك ...
صوت طنين أفزع الطير ... رجل يبدو شخصا محترما من ملابسه يضغط على مفتاح سيّارته التي إشتعلت أنوارها مرحبة به وأصدرت صوتا تعلمه انه تحت أمرها ... يده تمسك الهاتف يتحدّث بطريقة صارمة ... ملامح وجهه المنزعجة تؤكّد انه يكلّم زوجته ...
أغلق الباب ورحل ما إن دار المحرّك ... رائحة سيجارة تدغدغ أنفاسي متحدية روائح عوادم السيّارات .. سيجارة شبه مكتملة على حافة الرصيف ... هدية أخرى تجود بها هذه المدينة الكريمة ... تبا ...
زحفت على مؤخرتي حتى وصلت لها ... إلتقطتها ... مسحت مبسمها ... ثم قبّلتها ... شفتاي تعصرانها بشوق ... أوّل أنفاسها بعثت شبه غيبوبة في رأسي لم أدخّن منذ 4 أيّام ... أسندت ظهري للشجرة ونظرت للأعلى ...
سخيفة هي أحكامك أيها العالم ... أصلا أنا هربت من قريتي منزعجا أن لا شيء فيها سوى الشجر ... نمت على العشب ونظري يعانق أوراقها في صراعها الأزلي مع أشعة الشمس ... لا الأوراق إستسلمت وتركتها تمرّ ولا الأشعة تراجعت عن محاولتها الإختراق ...
تركت معركتهم الأبدية وأرجت نظري أتابع أغصانها ... حروف كثيرة ... عهود حب رسمت بحد السكاكين على لحائها .... تشهد على لحظات إختلسها عشّاق كثر ... شجرة تجاوز سنها المائة ... كلّ الأشجار هنا هكذا ...
نظام غرسها وترتيبها ليست من إنتاج فكر عربي ... مخلّفات الإستعمار ... أصلا كل شيء هنا مخلّفات الإستعمار ... مستشفيات ... ثكنات ... طرقات ... سكك الحديد ... الجسور ... ماذا فعلنا بعد 60 سنة من الحكم الذاتي لا شيء ...
رحت أراجع صراع المرحومين .... عمّ بوشوشة الع¨ومي ... الع¨ومي هي التسمية الشعبية لعملاء فرنسا ... وعم فتّاح المناضل ... بوشوشة كان جنديا في الفيلق الإفريقي للجيش الفرنسي ... ثم عمل عند معمّر فرنسي حتى جلت القوات عن أرضنا ... المعمّر باع أرضه الخصبة لبوشوشة ... وصار ملكا على أهل القرية ....
و فتّاح كان مناضلا ... فلاقا ... مقاوما ... رفع السلاح في وجه الإستعمار ...
أبناء عمومة ... جمعها الدم ... الشبه ... لقب العائلة وفرّقهما الموقف ...
متعة القرية كانت لما يشتدّ الصراع بينهما ... صراع إمتدّ أكثر من خمسين سنة ... إنتهت الحرب وإنسحبت فرنسا ... وتصالحت الحكومات ونصف شباب القرية هاجر إليها ... وشركاتها إنتصبت عندنا وسلبت خيرنا .... ومعاركهما لم تنتهي ...
بوشوشة يتقاضى تقاعدا من الحكومة الفرنسية يكفي لإطعام كل سكّان القرية سنتين ... وفتّاح كرّمته تونس بوسام وبطاقة علاج مجّاني في مستشفى يبعد عن مقرّ سكناه مسافة يقطعها في نفس التوقيت الذي تتمكن الطائرة من الوصول فيه من قرطاج لباريس ...
ربما كنت أستحسن كلام بوشوشة عن ما تركه الإستعمار ... تورّد وجهه وصحته الجيدة وهو الذي قارب القرن أكبر دليل ... ربما لو لم تفارقنا فرنسا لكان حال شباب هذا البلد أحسن حالا ...
فتّاح كان ينفعل وتخرج قذفات اللعاب من فمه الأسود ... متهما بوشوشة وأمثاله بالطحين ... الطحين هي أرذل الصفات في الرجل التونسي ... تهمة تطير معها الرقاب لو لم يتراجع قائلها ... الطحّان ... هو الخائن سياسيا ... والديوث إجتماعيا ... والواشي أمنيا ...
عذرا أصدقائي بالمشرق ... فنحن لا نعجن خبزنا بالطحين ... بل إستعرنا الإسم من فرنسا ليصبح الفارينة ... مفارقة عجيبة أن فرنسنا الكلمة ... وإتهمنا من يتعامل مع فرنسا بالطحين ... لا يمكن تفسيره سوى بالطحين ...
مؤخرات الفتيات تهتز جيئة و ذهابا ... يمكنك معرفة الدرجة الإجتماعية لفتاة من خلال ليونة مؤخرتها ... نتيجة مغامرتي أني صرت خبيرا في المؤخرات ...
قلب كبير يشقه سهم تتقاطر منه قطرات دم ... حروف بالفرنسية ... حافظ + فاطمة = حب للأبد ... فاطمة ؟؟؟؟ فاطمة التي كسرت قلبها يوم ودعتها عند البئر منذ أيّام ... تعلّقت بقدمي ألا أذهب ...
شعرها الأصفر وعيناها الزرقاوان ... كل أهل قريتنا على تلك الشاكلة ... ملامحنا أروبية سرقت طبيعتنا القاسية منها الجمال ... العرق الأشقر متواجد بكثرة في تونس ... لا أحد يعرف مصدره ... إذا أردنا الفخر ننسب أنفسنا للأندلس .. وإذا أردنا الإنتساب أكثر لهذا التراب تاريخيا ننسب أنفسنا للموحدين الوندال ... أثارهم لا تزال تشهد على حضارتهم في قريتنا ...
بينما يتهمنا البعض الآخر بأننا أحفاد زنا جدّاتنا مع جيوش الغزات يوما " أولاد العسكر " ... أو ضحية إغتصاب قراصنة بيض لهن يوما ... لكن الأكيد أننا منذ قرون ونحن هكذا ... جلود محروقة وعيون زرق وشعر أصفر .... خليط عجيب ...
فاطمة هي الوحيدة التي كان جلدها أبيض ناصعا ... كيف لا وهي حفيدة بوشوشة الغني من إبنه الوحيد ... ووريثته الوحيدة أيظا ... المستوى الإجتماعي يؤثر على منسوب الجمال ...
فاطمة ... ؟؟؟ العشق الممنوع ؟؟؟ هي تحبني فعلا ؟؟؟ لم أقدر يوما أن أحبها ؟؟ ربما توقيا من كسرت قلب يعرف صاحبه أن لا مستقبل لتلك العلاقة ...
تلك الدمعة التي أحرقت خدّها وأنا أتركها وحيدة عند البئر مسرعا الخطى لألحق بسيّارة النقل الريفي ... تلك الورقة النقدية التي دسّتها في يدي كانت آخر لمست بيننا ... وهي آخر ما أملك ...
قالت لي لو عدت يوما أن أجلب لها قصص " عبير" الرومانسية ... طريقة جميلة كي لا تجرح كرامتي ... بدأ صوتها يهدهدني ... حركات الطيور بجانبي تدغدغ جفوني ... النسيم يسحبني لعالم آخر ... أغمضت عيني وتهت في نوم عميق ... أحلام إختلطت بكل الأصوات حولي ... منبهات و صراخ ودوي محركات كلها كانت مؤثرات صوتية في حلمي معدوم الملامح ...
صوت غلق باب سيّارة بعنف ورجل يسب الميكانيك ومن إكتشفه ... فتحت عيني وقد بدأت النسمات الباردة تخز عظامي ... رجل يقارب الخمسين يصارع سيّارة نقل بيضاء ... تبدو اكبر منه سنا ...
نظرت للسماء ... الليل أسدل ستاره ... موعد الحافلة ... محطة باب سعدون ... ضاع أملي في العودة ... بدأ قلبي يفقد نبضه رعبا من ليلة أخرى في هذه المدينة التي لا تريد تركي ... صوت مؤدّب يعيدني للواقع " شباب ... ممكن مساعدة ... يرحم والديك "
إقتربت منه مستفسرا طلبه .... قال فقط دفعة بسيطة تساعد العجلات على الدوران لكي يشتغل المحرّك ... ركب شاحنته ... وضعت حقيبتي في الصندوق الخلفي لها ... وإستجمعت ما بقي في من قوّة ودفعت العربة ... بدأت سرعتها تزيد ليمتلأ حلقي بدخان أسود كثيف تزامن مع صوت محرّكها الذي زعزع صمت المكان ...
أخرج يده من شبّاك الشاحنة ... مناديا بأعلى صوته ... " يرحم والديك " ... لم أسترجع أنفاسي من أثر السعال و****اث حتى غابت السيّارة عن المكان ... الحقيبة ؟؟؟ ملابسي ؟؟؟
بدأت بالجري ورائه ككلب يطارد طائرة ... توقّف في إشارة حمراء ... زادت سرعتي للحاق به ... ما إن قاربت الوصول له حتى إخضرّت الإشارة ... أصوات المنبهات تربك خطواتي ...
أرجل تطارد شاحنة ... كسباق مداومة غير متكافئ... لم تجعلني الإشارات أسلّم أمري ولا هي مكنتني من اللحاق به ... بدأت خطواتي تثقل بفعل الإنهاك وبفعل الربوة التي كان الطريق يشقها ...
ضاعت الشاحنة وضاعت حقيبتي ... توقفت أسترجع أنفاسي ... خنقتني العبرة ... كل شيء ضاع ... بدأت أمشي على غير هدى ... الطريق شبه مقفرة ... لكن الأنوار تسمح لي بالرؤيا ...
المكان يبدو فخما ... أسوار عالية تحجب ما ورائها ... الطريق تعتبر جيّدة مقارنة بباقي أرجاء المدينة ... بدأت أتسلّق تلك الربوة ... وصلت لنهايتها ... نزل يبدو فخما جدا ... علامة إتجاه تشير أنه الشيراتون ... إسمه فقط يرعبني .... خفت من نظرات الحارسين ... فأسرعت الخطى مبتعدا عنهما ...
وقفت أنظر حولي ... يمكنني رؤية كل أرجاء المدينة ... على إمتداد البصر تصلك أضواء المنازل ... أنوار حمراء وخضراء رفافة ... هذه لشركة والأخرى إعلان ... عن يساري يقع مبنى ضخم ... مبنى التلفزيون ... كان يوما ما مخصصا لإحتضان الجامعة العربية أيّام القطيعة العربية مع مصر ... ثم بعودة العرب لها وعودتها لهم ... بقي مهجورا لسنوات حتى حوّلته تونس لمبنى التلفزيون ... بجانبه تقبع وزارة الخارجيّة ... إنقلبت تضاريس المكان فصارت خطواتي نزولا أسرع فأسرع لكن دون وجهة ...
مفترق طرقات ... إشارات لا تشير لشيء ... فقط من يسكن تلك المنطقة يمكنه أن يفهمها ... ومن يسكنها لا يحتاج إشارات ... الفكر التونسي العبيط ...
علامة إتجاه كبيرة تشير للمطار ... وضعت يدي في جيبي أداعب ورقة النقود ... نعم سأقطع تذكرة للذهاب للندن ويتبقى معي ما يمكنني من بدأ مشروع هناك ...
إختلطت دموع اليأس بضحكات السخرية ... لكني لم أتوقف ... قدمي بدأت تؤلمني ... المكان الخالي أشعرني بالوحشة ... سيّارات تطير بجانبي تمنعني حتى التسلية في وجوه راكبيها ... قطعت الطريق بحثا عن حي سكني ... يمكنني من إفتراش أحد أرصفته بشكل من الآمان ...
كحالة بلدنا في فصل الخريف بدأت السماء تجود بخيرها .. تهاطل حمما عليا ... كنت أسعد دوما بهطول المطر لكن في هذا الظرف وفي هذا المكان ... بدأت ألعن حظي ... لم أجد مكانا ألجأ له ...
لا مفرّ من الجري ... الحقيقة سواء أن تجري أو أن تسير أو تقف ... لن تخطأك أسهم المطر ... لكني واصلت الجري ... إختلط الدمع بالمخاط مع سيل الماء المنهمر على رأسي ...
ما إن قفزت فوق الحاجز الحديدي للطريق السريعة مقتربا من إحدى العمارات أختبأ فيها ... حتى توقف المطر ... نظرت للسماء أعض شفتي السفلى ... كأني أهدد السماء بالإنتقام من تآمرها عليا ...
لم أتمالك نفسي من الضحك ساخرا من حظي العاثر ... خلعت قميصي أعصره علّه يجف قليلا ... حذائي الرياضي الفخم تحوّل لونه من الأبيض إلى البني بفعل الطين ... جواربي القصيرة صارت سوداء حتى إختفت ماركتها ... بنطالي الرياضي الرمادي إلتصق بلحمي حتى صار يخزني ...
أروع إستقبال تودعيني به يا قبلة الطامحين ... حتى فرصة النوم على رصيف صلب حرمت منها ... قطعت ذلك الشارع الهادئ ... الماء منحصرا بين قدمي والحذاء يصدر صوتا مع كل خطوة كالمكاء ... المكاء هو الصوت الذي يصدر عندما تنفخ بين راحتيك ... نسميه في تونس " تَعْفيط " ... وهي حركة سخرية من غيرك حينما يفشل في شيء ... تضع يدك مقابلا شفتيك وتُعَفّط عليه ونضحك لفشله ...
أنا لم يكفيني تعفيط العالم من حولي ... حتى تطاردني السخرية كلما خطوت ... وجدت حديقة عمومية كبيرة مهملة أمامي ... خلتها ستكون ملجأي لهذه الليلة ... جلست على أحد المقاعد الإسمنتية ... خلعت حذائي أعصر جواربي ...
بدأ الصقيع يقضم أظافري ... رجفة شديدة سرت في مفاصلي ... أغمضت عيني متخيّلا دفء سريري ... علّ الخيال يغالب مرارة الواقع ... صوت هزّ كياني ... بوم ناعقة تقف عند رأسي ... عيناها الصفراوان تراقبان حركاتي ... رقبتها تلف متابعة ما أفعل ...
أصلا أنا أتشائم منها ... أقرف من شكلها ويرعبني وجودها ... كل ذكريات خرفات الرعب التي روتها جدّتي في طفولتي تجسّدت أمامي .... بدأت مسامي جلدي تتحوّل لشوك جارح مع نعيقها .... جواربي في الحذاء وقميصي على كتفي ... ورحت أتسحّب هربا من الروح الشريرة التي تسكنها ... هكذا حدثتني جدتي يوما وجدتي لا تكذب ...
قالت أن الجن تسكن فيها ... تنعق جالبة الخراب ... إبتعدت عنها قليلا ... لحقني صوتها المفزع ... رفعت رأسي رأيتها تحط على عمود بجانبي ...
الأمر صار مؤكدّ الجن سينهي مغامرتي في هذا البلد الغريب ... حثثت الخطى علها ترحمني ... لكنها تصر على مطاردتي ... بدأت الصورة تتضح ... هي جلبتني لمصيدتها ... فكرة ترك القرية ... الملابس التي أرسلها لي حاتم إبن عمي من الخارج بعد طول خصام ... خاتم أمي الذي رهنته عند صلاح لأتمكّن من السفر ... كل التفاصيل تؤكّد أنها من تنسيق قوة عجيبة ...
هذا النحس الذي طاردني منذ قدومي ... ضياع ملابسي ... عينا ذلك الرجل صاحب الشاحنة تشبه عيني البوم ... لم يكن رجلا ... كان روحا ... كان جنيّا ... بدأت أحث الخطى مبتعدا عن الأشجار القليلة في الحديقة ...
كنت أتوقع ان تغرس مخالبها في رقبتي ... ساحة مظلمة وسط الحديقة لا شجر فيها ... هربت نحوها ... إن كان يجب أن تهاجمني فل تهاجمني في مكان مفتوح ... رجل لرجل ... وجها لوجه .... إستبسال الموت ... بدأت أسرع الخطى محاولا العودة لمكان مأهول ...
كتفيا تثقلان كل ما ولجت أكثر ... الأرض تحوّلت لطين زلق بفعل المطر ... قدمي تغوص فيها حتى الكعبين ... يد صلبة تقبض على قصبة رجلي ... توقفت لا إراديا ... كنت أستشعر ملمسها البارد يطبق على كاحلي ...
عجز لساني على نطق الشهادة ... حتى يدي عجزت عن رسم الصليب ولا رقبتي تحرّكت للخضوع على شريعة موسى ... توقّف الدم في عروقي سأموت كافرا ... أردت الفرار ... حاولت الجري لكنها كانت تمسكني ... الطين والرعب والبرد منعاني من الهرب ... تعثّرت قدمي ووقعت على وجهي أشرب من طين الأرض ... نظرت خلفي ... إن كنت سأموت فلأمت وعيني تنظر ...
يد قوية لا تزال تمسك بقدمي ... رجل عجوز يحاول الزحف نحوي ... آهات ألم تصدر من حلقه المتحشرج ... يريد أن يقول شيئا ... هل هو بشر أم البومة تجسّدت لي كذلك ...
رفعت جسدي الممرغ في الطين محاولا الوقوف ... كلمات قليلة تخرج من حلق الشيخ ... " أرجوك ساعدني ... بيتي ليس بعيدا من هنا " ... كنت أنتظر أن يترك قدمي لأنطلق هاربا ...
وقفت متأهبا للفرار عندما لحقتني كلماته " عاوني يرحم والديك " ... البوم أسلمت ... نعم القادر القدير قادر على كل شيء ... وضعت يدي بين إبطي الشيخ ساعدته في الوقوف ... بدأ ألمه يتحوّل لصراخ ... صراخ يؤكد انه كائن حي مصاب ...
جاهدت حتى خرجنا من بركة الطين تلك ... وصلنا حافة الطريق ... الشيخ مصرّ أن أجلب له كيسا وقع منه ... تركته جالسا على الحافة وعدت أبحث عن طلبه ... فرصة للهرب لا يخزني الضمير بعدها ... وجدت فردة حذائي التي كنت سأنساها...
كيس به بعض المعدّات ... تؤكّد انه سمكري ... لعنت الفقر الذي فرض على هذا الرجل العجوز العمل في مثل هذا السن وتلك الظروف ... عدت إليه ... حملته على ظهري ... لم يكن ثقيل الوزن لكني كنت منهكا ...
أنيني بدأ يصل أذنه ... كان يعتذر مني عما سببه لي ... يمينا وشمالا ... للأمام ... كنت أتّبع إشاراته ... شارع طويل في آخره دائرة تحيط بها عمارات ... ليست عمارات تقليدية ... ثلاث طوابق مزينة بالشرفات المدورة ...
كلها متشابهة ... وصلنا أمام باب إحداها ... باب بلوري سميك مغلق ... بجانبه لوحة إلكترونية عليها أرقام ... طلب مني الضغط على أرقام معيّنة ففتح الباب ... لقد عشت هذا المشهد يوما ...
أحد أفلام نادي السينما بالمعهد ... نفس التفاصيل عندما حطّت السفينة الفضائية ... دخلت الباب ... كنت متأكدا .... هي سفينة فضاء لا ريب ... أنوار خافتة عجيبة أنارت بمجرّد وصولنا ... رائحة المعقمات في كل مكان ... بعض النباتات موضوعة على أركان الفسحة المدوّرة ...
باب معدني تعلوه شاشة كتب عليها الرقم صفر ... تقدمت منه حسب طلب من يركبني ... ضغطت على زر به شكل معيّن مقلوب ... فتح الباب ... دخلت مترددا وقد جف الدم في عروقي ... حسب طلب الشيخ ضغطت على الرقم ثلاثة ...
أغلق الباب وبدأت رحلت الرقي للسماء ... لقد طارت السفينة ... واحد ... إثنان ... ثلاثة ... رعبي من حركة الصعود أنساني ثقل حملي ... توقف التابوت المقدّس بعد رجة خفيفة وفتح الباب ... ممر عريض .. تلمع أرضيته المرمرية ... يتوسطه بابان ... ما إن خطونا خارج الصندوق وأغلق الباب حتى إشتعلت الأنوار من تلقاء نفسها ...
فمي فتح عن آخره ... المبنى فخم لدرجة أني عجزت عن تخيّل رابط واحد بين هذا الرجل وذلك العالم ... لا بد أنه يشتغل حارسا أو معينا في إحدى الشقتين ... بدأت السير بخطى مثقلة من الحمل في تفكيري ... الباب رقم 6 ... باب خشبي بني عريض ... عريض لدرجة لم أتقبّلها ...
دققت الجرس ... كنت أسمع خطوات قادمة نحوي ... أردت أن ألقي ذلك الرجل وأهرب ... غير أني لا أعرف طريق العودة ... فتح الباب لتطلّ منه سيدة تضع وشاحا على رأسها .... تلف وسطها بمنديل غسل الأواني ... الخادمة ... لا بدّ أنه زوجها ...
نظرت لي متعجبة من وجود شيء على شاكلتي في ذلك العالم العجيب ... كلمات صارعت لكي تخرج من فمي " أصلي لقيت زوجك واقع على الأرض " ...
رفعت المرأة عينها ... إصفرّ وجهها ... لتتركني واقفا عند الباب صارخة ... " مادام فريال ... مادام فريال ... إلحقي سي توفيق "
سي توفيق ؟؟؟ هذا الشيء الذي أحمله إسمه السي توفيق ؟؟؟ هو إسم توفيق وحده يعتبر غريبا على شكله ناهيك لو ربط بالسيادة ...
بدأت أكتشف ما يظهر لي من محتويات البيت ... أثاث فخم ... لم أتبينه بعد حتى هجمت عليا سيدة ... شعرها أحمر ... وجهها أبيض ناصع ... شفتاها حمراوان على شكل هلال ... تنقصه نجمة على أنفها ونرفع شعار الجمهورية ....
هجومها أربكني وشكلها ولهفتها ... " توفيق خير ... مالك ؟؟؟ " ... لم تنتظر أن يجيبها زوجها ... هجمت عليا مرعوبة ... " عملت فيه إيه ؟؟؟ حصلو إيه ؟؟؟ " وكادت أن تنشب أظافرها في وجهي ...
لولا خشيتي أن يموت ذلك الرجل فأعدم بتهمة لم أرتكبها ... لألقيته من على ظهري وصفعت صفاقتها ... بصوت ثابت " أنا لقيته واقع على الأرض في الحديقة ... هو طلب مني أوصله هنا ... لو حتخدوه خدوه ..وإلا حأسييه وأمشي " ...
تراجعت حدة نظراتها نحوي ... أفسحت لي المجال للدخول ... كدت أنزلق من نعومة رخام الأرضية ... بدأت المرأة تقودني في الممر ... كنت أنظر للأرض خجلا وتعبا ... غرفة نوم تضاهي مساحتها ساحة مدرستنا ... سرير أبيض مدور يتوسطها ...
حاولت وضع الرجل المصاب عليه ... جاهدت أن لا أزيد ألمه ... أجلسته بعناية ... أردت أن أرفع رجليه من على الأرض ... لعبة صوفية بنية على شكل كلب تقبع فوق السرير ... دفعتها بيدي لأفسح المجال له ... بدأت تعوي هاربة من حركتي ... ثم كثر نباحها ...
هو كلب حقيقي ... عالم عجيب بكل ما فيه ... كلب لا يتجاوز حجمه راحة يدي ... تذكّرت كلاب قريتنا ... يمكن أن يبتلعه أحدهم وهو يتثائب ...
صوت مفزوع يصلني من داخل الغرفة ... السيدة تحدّث الطبيب ... تؤكد عليه سرعة القدوم ... الثاني كذلك ... ثم الثالث ... نعم ثلاث أطباء ... " سي توفيق متاع زبي هذا" شكله كمتسوّل ... إستنفرت وزارة الصحة لأجله ...
كثرة الأثاث والديكور بالغرفة منعني من إكتشاف كل تفاصيلها ... لم يبالي بوجودي أحد ... إسورة ذهبية على طاولة السرير تغمزني أن أسرقها ... لن يهتم أحد ثم سأنسحب ... هممت بذلك لكني خفت ...
فريال الصهباء هذه لم تترك هاتفها ... لم يبقى سوى الرئيس ومبعوث السلام بليبيا لم يعلما بالحادث ... إنسحبت من الغرفة ... باب الشقة مفتوح ... أسرعت الخطى هربا من ثقل الغربة في هذا المكان ... فتاة حمراء صغيرة تقف مشدوهة وقد أفزعت الجلبة نومها ... رعبها من وجود أحد أهل الكهف أمامها منعها من الصراخ ... لم أفهم سبب نظرتها ...
وقفت أمام صندوق الزمن ... ضغطت على الزر ... فتح الباب بسرعة ... وقفت أمامه ... ترددت كثيرا في الدخول ... خفت أن أخطئ في شيء فأحبس داخله ... إنتظرني حتى ملّ الوقوف فأغلق أبوابه نحوي ...
إلتفت يمينا وشمالا ... إشارة خضراء عليها رسم رجل يجري ... " خروج النجدة " ... النجدة ... النجدة ... هكذا كانت تصرخ روحي مهرولا نحوه ... سرداب مظلم أنار إحتراما لهيبة قدومي ... سلالم طويلة نزلتها قفزا هربا ... وصلت الباب ... مغلق وعاند محاولاتي لفتحه ... يفتح بالرقم السري ... لا أعلم السر لكني تذكّرته ...
شممت هواء الحرية المنعش ... كدت أسجد على الأرض مقبلا إياها شكرا على السلامة ... الحي هادئ جدا ... ضوء خفيف يرمش بهدوء " مقهى الملوك 24/24" ... نعم أنهم الملوك ... لا شك في ذلك .... من يسكن هذا المكان لا يكون سوى ملكا ...
تقدّمت منه ... مكان مفتوح ... فيه بشر ... لا يهم إن كانوا من سكان المكوكات الفضائية المهم أن أشعر بالأمان حتى نهاية هذه الليلة ... ومع أوّل ضوء سأرحل ... غابتي ..والأغنام ... الحياة في قرية أبسط بكثير ... لا تجوع فيها ولا تظمئ... لا خوف عليا ولا يحزنون ...
إقتربت من الباب ... جرّتان كبيرتان عن يمين ويسار الباب ... جلست القرفصاء بجانب أحدهما ... مغص بدأ يقطع أمعائي ... نعم هذا ما ينقص لتختم آلام هذه الليلة ... الأكل من القمامة ... العصير الفاسد ... الرعب ... الصقيع في القدمين ... كلها إجتمعت لتستخرج من بطني إسهالا يستحيل تأجيل نتيجته ...
لم أجد من بد سوى المقامرة ودخول المقهى ... دفعت الباب الذي رسمت عليه كلمت ... إدفع ... لم ينتبه أحد لدخولي ... بضعة شباب يتابعون مقابلة كرة قدم في الطرف الآخر من العالم ...
بابان أحدهم عليه رسم رجل والآخر امرأة ... هو الحمام لا ريب ... دفعت باب الرجال ... الأنوار في هذه البقة من المجرّة كلها تعترف بقيمتي ...تنير لمجرّد قدومي ... الحمام من كثرة أناقته وفخامته إستحيت أن أقضي حاجتي فيه ...
لكن الطبيعة هزمتني ... ذهب الألم وشفيت وعوفيت ... كنت انوي الخروج متسللا كدخولي ... منظر مرعب في المرآة ... خنزير خرج من حصة تمرّغ في الطّين ... لست أنا حتما ... هي صورة إشهارية عن مضار شرب مياه المستنقعات لا شك ...
حرّكت يدي .. قفزت ... إنه أنا للأسف ... إقتربت من الحوض ... الماء كما النور .. يقدّر وجودي ... الحنفية تعمل من تلقاء نفسها ... غسلت يدي ... تحوّل لون الحوض للأصفر ... الصابون متوفّر ... تخلّصت من الطين على وجهي الماء الساخن شجعني بعث الروح في أوصالي ...
بجانب الباب ... صندوق معدني كبير ... أثارني سبب وجوده ... كنت سأخرج لكن رغبتي في إكتشافه جذبتني ... مررت يدي فوقه بجانبه ... ما إن وضعت يدي تحته حتى نفخ .. أرعبتني الحركة المفاجأة ... هواء حار لفح يدي ...
فكرة لا تخطر على بال الجن الساكن في البومة نفسها ... خلعت ثيابي ... غسلتها في الحوض ... الماء موجود والصالون متوفر بكثرة .... ثم إستعملت المجفف لتجفيفها ... معتزا بذكائي ... لا أعلم كم إستهلك تخفيف حذائي من جهد ذلك الجهاز .... أفرغت حاوية المناديل ... ملأتها بالماء الساخن وإستحممت ... أصلا رحت أفرك لحمي مستخرجا الوسخ خيوطا وكورا ...
تأكدت قبل خروجي أني لم أسبب ضررا لأحد ... كل شيء عاد كما كان ... فتحت الباب برفق .. متأهبا للتسلل ... الكل مركز مع المقابلة ... كافيه لا عمّال فيه ... نصف خطوة تفصلني عن الباب وأهرب ... سأنعم بدفئ ونظافة نسيتها ...
ما إن وضعت يدي على الباب ... حتى قابلتني مجموعة من الشباب من الجنسين ... هم داخلون وأنا خارج ... جلبتهم وضوضائهم سحبت نظر النادل الذي تقدّم مستقبلا الركب ببشاشة ...
وجودهم منعني من الخروج كما أن آثار البلل على ملابسهم تأكّد أن المطر سيعاود حملته على رأسي ثانية ... ترددت في الخروج ... النادل لم يفهم أين كنت ... إعتقد أني وافد مع الوافدين ... فتبعتهم حسب أمره ... يعني مالذي يمكن أن يحدث ؟؟؟؟
ملابسي نظيفة وشكلي مقبول ... وسني ليس بعيدا عن سنّهم ... تحلّق الجمع حول طاولة ... فجلست قربهم ... النادل يشير من وراء المصرف ... " قهوة الأولاد كي العادة " ... إشارات بالموافقة من الجميع ...
حشرت رأسي بين كتفي خوفا أن يكتشفني ... رحت أتابع التلفاز كأني أفهم ما يجري ... أذني تلتقط دبيب النمل ... عينا ذالك الشاب لم تخطأ وجودي ... تقدّم مني مسرعا كأنه يطارد هدفا كاد يفلت منه ...
وقف يسألني عن طلبي ... وضع أمامي ورقة عليها عدة رسوم .... تحسست تلك الورقة النقدية الندية في جيبي كأني أودعها ... أملي الأخير في العودة لقريتي ذهب قربانا لكرامتي ... نظرت على الطاولة ... المشروبات .... سعر القهوة 1.5 دينار ... الحلويات تتراوح بين 1 و 5 ... الأسعار تبدو مقبولة ...
عملا بالمثل التونسي الشهير " إلي مات على شبعة لا قام " ... نقص مليم واحد من ثمن التذكرة سيحرمني حق العودة ... إذن فلتكن نهاية مميزة لهذه الليلة العجيبة ... طلبت منه قهوة كبيرة بالحليب ... وقطعتي كيك بالشكولاطة ... وعلبة سجائر ...
نعم ... سأنفق كما ينفقون ... أكلت وشربت ودخّنت ... بل صرت أصفّق وأتقهر وأتابع مقابلة كرة القدم ... نعم هم ليسو أحسن مني ...
شبعت بطني ... أجّلت التفكير في مصيري ... جلت بنظري في صفوف الحاضرين ... ملابس فخمة رغم كونها عجيبة ... سراويل ممزقة ... بنات تدخن الشيشة ... فتيان أهملوا قص شعرهم .... أعمارهم لا تتجاوز الثامنة عشر لو أسرفت في التقدير ...
الساعة الثانية ونصف فجرا ... ماذا يفعلون ؟؟؟ ... أكيد أنهم تسللو خلسة من بيوتهم ... قرب المقهى من المباني ... جعله وكرا لهم ... مجموعات مجموعات يتحلّقون حول طاولات ... النادل يعرفهم بالإسم ويبدو أنهم متآلفون معه ... فكّرت بسؤال النادل إن كان بإمكانه إيجاد عمل لي ؟؟؟
ماذا سأعمل هنا ؟؟؟ وأين هنا هذه ؟؟؟ لا الناس تشبه الناس ولا المباني تشبه المباني ؟؟ لولا الكلام الذي يشبه لهجتنا لتيقنت أني خرجت من القارة أصلا ... طبقة غنية ثرية حاكمة متحكمة نأت بنفسها وذويها عن الخراء المنتشر في البلاد ...
سأذكر هذه الليلة ... ربما ستكون إحدى نوادري عندما أكبر وأصبح بعمر صلاح ... سأرويها للشباب وسيعجبون بي .. تستحق ما أنفت فيها ...
إنتهت المقابلة ... خرج الجميع ... بقيت أنا والنادل وشاب آخر ... صوت المطر يؤجل مغادرتنا ... آذان الفجر يؤكد لي أني لم أهاجر ولم أترك أرض الوطن ... على أقل تقدير في المحيط المغاربي ... عيني مركّزة على التلفاز أداعب سيجارة لم أشعلها ...
رفعت عيني فرأيت ذلك الشاب ينظر نحوي ... كأنه يتابعني ... خفت منه ؟؟ لا أدري لماذا شعوري بالنقص أمامهم يحرجني ... أشحت بنظري ... لكني كنت اشعر بعينيه تراقباني ... وإن يكن ... كما قال عادل إمام إن كنت أملك ثمن ما أستهلك فليسو خيرا مني ...
نظرت في عينه مباشرة فكأنما غمزت صنارته ... وضع إصبعيه حول شفتيه يطلب سيجارة ... إنكساره أمامي جعل قلبي يرقص طربا ... أشرت برأسي بالموافقة ... حمل فنجان قهوته وإقترب مني مبتسما على حياء ... النادل رسم بسمة سخرية على وجهه ...
جلس قبالتي ... مددت له السيجارة ... أشعلها ... تبسم لي وقال " يرحم والديك " ... إسمه يوسف ... يدرس بالجامعة لكنه لا يريد المواصلة ... جسمه نحيل جدا ... أصابعه ترتعش ... يسكن هنا ... له أختان واحدة أكبر والثانية أصغر ...
إن كنت أطلقت العنان لشهوتي في الإنفاق ... فلن أكبح جماح كذبي ... رحت أروي خرافات عن حياتي وسبب قدومي لهذا المكان ... أصلا أنا لم أصدّق نفسي لكنه صدّقني ...
بدأ النور يطغى على الكون ... حركة بعض السيّارات تنطلق ... تقدّم منا النادل يطالب بحقه ... مددت له الورقة النقدية ... نظر في عيني يوسف ... " دجو ؟؟؟ كيف العادة ؟؟؟ حسابك ثقل برشة ؟؟؟ " ....
ورطتي بالكذب وإنكسار عيني دجو ... جعلتني أطلب من النادل أن يأخذ ثمن قهوته أيظا... هي تناكت تناكت ... أقل شيء أترك إنطباعا في ذاكرة هذا الشاب ... أعاد لي بضع قطع نقدية ... تغيّر وجهه لما أخذتها منه ...
وخرجت ... كنت أخطط لشراء بعض الخبز و الجبن وقارورة ماء والعودة على قدمي للقرية ... 170 كلم لا غير ... ثلاث أيّام سيرا ...
فقط سؤال واحد أطرحه ؟؟؟ أين أنا ؟؟؟ ... من أين أذهب إلى أين ؟؟؟ ... لحقني دجو يشكر كرمي معه .. أردت أن أسأله ؟؟؟ ... لكني خجلت ... قطعنا الشارع ... نافورة هامدة ملأ المطر حوضها ...
ودعني عندها وإنصرف داخلا لإحدى العمارات ... مررت من أمام العمارة التي يسكنها سي توفيق ... وقفت أنظر لشرفاتها المدورة أودع ليلة ستؤثث ذاكرتي لسنين ... صفّارة سيّارة إسعاف تهز المكان وتربك حركاتي ...
تسبقها سيّارة أخرى تبدو غالية جدا ... نزلت مدام فريال منها على عجل .. وجهها أصفر والحزن يبدو على محيّاها .... وإلتحقت بالمسعفين اللذان فتحا الباب الخلفي للعربة ... سي توفيق مات ...
أردت أن ألقي نظرة الوداع على من كان سببا في أحداث هذه الليلة ... سرير طبي كامل ... إقتربت منه غير آبه ... سمعت صوت أحد المسعفين ... " لاباس سي توفيق ما تخافش " ... لم يمت ...
نظرت في عينيه ... لا أدري كيف نطقت متسائلا " سي توفيق لاباس ؟؟؟ " ... نظر في عيني مستغربا ... وأمسك يدي ... كان المسعفان يدفعان عجلات السرير وهو ييسحبني ... نفس قوّة الضغط على قدمي ... ليلة أمس ...
دخلنا العمارة ... باب المصعد ... الطابق الثالث ... باب الشقة ... الممر ... غرفة النوم ... حتى وصلنا لسريره لم يترك يدي ... جرّني معه عنوة وسط دهشة مدام فريال ... إنسحب المسعفان ... بقيت أنا وهو والمدام ... لم يترك يدي رغم إغلاق عينيه ...
كل ما حاولت سحب يدي منه ... نطق جهاز يطن عند رأسه ... حركة من يد فريال تمنعني من تكرار المحاولة ... سحبت كرسيا وأجلستني عليه ... كنت أنظر لمظهر هذا الشيخ ؟؟؟
سي توفيق ؟؟؟ هل يعقل ؟؟؟ شكله لا يتطابق مع المكان ولا مع سكانه ؟؟؟ مثلي تماما ؟؟؟ خرجت فريال تحدّث الخادمة ... وجهه بدا مألوفا ... ربما هو مجرّد شعور بالرحمة نحوه ... بدأ ضغط أصابعه يخف عن معصمي ... تسللت يدي بحذر ... إنتظرت قليلا أراقب الجهاز عله يطن ثانية ... على أطراف أصابعي خرجت أتسلل ...
رغم حذري فقد سحبت خطواتي مدام فريال لتقابلني في الممر ... أصابعها وعيناها تسألني عما حدث ... وضعت كفي تحت خدي مشيرا أنه نام ... أبشر وجهها لكنها دخلت لتتأكد من صحة كلامي ... بدأت أسرع الخطى نحو الباب ...
قبل وصول يدي لمقبضه لحقني صوت صارم رغم همسه " وين ماشي ؟؟ " ... تسمرت مكاني ... كدت أن أرفع يدي للأعلى مستسلما ... ركبي إضطربت ... نظرت خلفي ... مدام فرال تحث الخطى نحوي ...
- إنت رايح فين ؟؟؟
- ماشي
كثرة تذمّره تنبأ بإقتراب الفرج لإعتصار أمعائي ... كل حواسي ترقب الحركة على المقعد المجاور لي ... لم يخب تقديري ... العادة التونسية الأصيلة في التخلّص من شيء غير مرغوب ... سيدة في بداية الثلاثينات تبتعد تمسك يد إبنها ذي السبع أو الست سنين ... خطوات واثقة ثابتة حثيثة توهم الناس أنها لم تفعل شيئا ...
إلتقاتة حذرة منها تراقب ما تركته على المقعد ثم نظرة عن يمين وشمال وإنطلقت مسرعة لتبتعد عن مكان جريمتها ... جرائم قوم عند قوم ولائم ... قفزت بسرعة للمقعد المجاور ... يدي تتسلّل بحذر وخجل تتحسس الكيس البلاستكي المهمل على خشب المقعد ...
مجموعة من الفتيان يملأ صراخهم المكان أجّلت معرفة نتيجة غنيمتي ... نصف سندويتش قضمه الطفل بإهمال ... فتحته ... لم أنظر ما بداخله ... المهم أن يملأ بطني .... رفعت رأسي للجهة المقابلة في الطريق ... علبة عصير صغيرة مهملة على حافته ... مقاومتها لهبّات الرياح الخفيفة تؤكّد إحتوائها على كمية منه ... الجوع علمني قوانين الفيزياء ...
تأبّطت حقيبتي الصغيرة وكيس الأكل ... خطوات ثابتة قطعت بها الطريق وبسرعة إلتقطت العلبة وهربت من ذلك المكان .... خشيت عينا فضولية تتبعني فيزيد الإحراج في ربط عقدة تخنق روحي الهامدة أصلا ...
حديقة البلفيدير في العاصمة هي المتنفّس الأخضر الوحيد لأهلها ... حديقة الحيوان ... كنت أسمع بها ... أردت الدخول لكن الحارس طلب مني دفع الثمن ... أصلا كل ما تبقى لي هي ورقة ذات 20 دينار أخفيتها بعناية حتى موعد الحافلة للعودة لقريتي ...
أصلا هي لا تغطي مصاريف عودتي ... كنت أخطط لركوب الحافلة للعودة للمدينة القريبة ثم سأمشي على قدمي للعودة لبيتي ... يكفيني ما نلت من مغامرتي هذه ... أسبوعان أتخبّط فيهما بين الشوارع علي أجد عملا ... فلم أجد ما أسد به جوعي سوى ما تجود به القمامة أو ما يهمله أحدهم ... حبست دمعة قهر تتسلل من جفني ...
شجرة فارعة في المساحة الخضراء المجانية حول الحديقة كانت ملجئي ... جلست تحتها أتناول ما تركه لي ذلك الطفل ... بدأت أصارع نفسي أن لا تقرف منه ... رشفات من العصير الذي تغيّر طعمه من اثر تركه في الشمس ...
هدأ جوع بطني ... وبدأت حرب ضميري ... ألم اقلّ لك لا تذهب ؟؟؟ ليتك سمعت الكلام قبل مغامرتك ؟؟؟ ليتك بقيت في القرية ؟؟؟ كنت ستوفّر ما أنفقت في رحلتك هذه ؟؟؟ ستعود خالي الوفاض ... ستثقل روحك من سخرية الجيران منك ؟؟؟
أسنان عم صلاح الصفراء وهو يضحك من خيبتي كأنياب دراكولا تثقب أوردتي ... صلاح ذلك الرجل الذي يفهم كل شيء سيجعلني محور جلساته تحت الشجرة وهو يلعب الخربع¨ة... لعبة شعبية تلعب بالحجارة ... يقول صلاح دائما أنه بطل العالم فيها ...
حركة خفيفة على العشب بجانبي جعلتني أرفع رأسي ... عصفور الدوري المعروف عندنا بالبضويش أو البزويش ... يلتقط فتات الخبز الذي تساقط من لمجتي الملتقطة ...
دورة الحياة مضحكة في هذه العاصمة ... إلتقاط الفتات ... لم أصل أصلا لأتساوى مع هذا العصفور ... هو بنى عشا يأوي له عند الليل ... أنا لم أنم منذ مدّة ... لا البرد ولا الخوف ولا الرصيف سمحى لي بذلك ...
صوت طنين أفزع الطير ... رجل يبدو شخصا محترما من ملابسه يضغط على مفتاح سيّارته التي إشتعلت أنوارها مرحبة به وأصدرت صوتا تعلمه انه تحت أمرها ... يده تمسك الهاتف يتحدّث بطريقة صارمة ... ملامح وجهه المنزعجة تؤكّد انه يكلّم زوجته ...
أغلق الباب ورحل ما إن دار المحرّك ... رائحة سيجارة تدغدغ أنفاسي متحدية روائح عوادم السيّارات .. سيجارة شبه مكتملة على حافة الرصيف ... هدية أخرى تجود بها هذه المدينة الكريمة ... تبا ...
زحفت على مؤخرتي حتى وصلت لها ... إلتقطتها ... مسحت مبسمها ... ثم قبّلتها ... شفتاي تعصرانها بشوق ... أوّل أنفاسها بعثت شبه غيبوبة في رأسي لم أدخّن منذ 4 أيّام ... أسندت ظهري للشجرة ونظرت للأعلى ...
سخيفة هي أحكامك أيها العالم ... أصلا أنا هربت من قريتي منزعجا أن لا شيء فيها سوى الشجر ... نمت على العشب ونظري يعانق أوراقها في صراعها الأزلي مع أشعة الشمس ... لا الأوراق إستسلمت وتركتها تمرّ ولا الأشعة تراجعت عن محاولتها الإختراق ...
تركت معركتهم الأبدية وأرجت نظري أتابع أغصانها ... حروف كثيرة ... عهود حب رسمت بحد السكاكين على لحائها .... تشهد على لحظات إختلسها عشّاق كثر ... شجرة تجاوز سنها المائة ... كلّ الأشجار هنا هكذا ...
نظام غرسها وترتيبها ليست من إنتاج فكر عربي ... مخلّفات الإستعمار ... أصلا كل شيء هنا مخلّفات الإستعمار ... مستشفيات ... ثكنات ... طرقات ... سكك الحديد ... الجسور ... ماذا فعلنا بعد 60 سنة من الحكم الذاتي لا شيء ...
رحت أراجع صراع المرحومين .... عمّ بوشوشة الع¨ومي ... الع¨ومي هي التسمية الشعبية لعملاء فرنسا ... وعم فتّاح المناضل ... بوشوشة كان جنديا في الفيلق الإفريقي للجيش الفرنسي ... ثم عمل عند معمّر فرنسي حتى جلت القوات عن أرضنا ... المعمّر باع أرضه الخصبة لبوشوشة ... وصار ملكا على أهل القرية ....
و فتّاح كان مناضلا ... فلاقا ... مقاوما ... رفع السلاح في وجه الإستعمار ...
أبناء عمومة ... جمعها الدم ... الشبه ... لقب العائلة وفرّقهما الموقف ...
متعة القرية كانت لما يشتدّ الصراع بينهما ... صراع إمتدّ أكثر من خمسين سنة ... إنتهت الحرب وإنسحبت فرنسا ... وتصالحت الحكومات ونصف شباب القرية هاجر إليها ... وشركاتها إنتصبت عندنا وسلبت خيرنا .... ومعاركهما لم تنتهي ...
بوشوشة يتقاضى تقاعدا من الحكومة الفرنسية يكفي لإطعام كل سكّان القرية سنتين ... وفتّاح كرّمته تونس بوسام وبطاقة علاج مجّاني في مستشفى يبعد عن مقرّ سكناه مسافة يقطعها في نفس التوقيت الذي تتمكن الطائرة من الوصول فيه من قرطاج لباريس ...
ربما كنت أستحسن كلام بوشوشة عن ما تركه الإستعمار ... تورّد وجهه وصحته الجيدة وهو الذي قارب القرن أكبر دليل ... ربما لو لم تفارقنا فرنسا لكان حال شباب هذا البلد أحسن حالا ...
فتّاح كان ينفعل وتخرج قذفات اللعاب من فمه الأسود ... متهما بوشوشة وأمثاله بالطحين ... الطحين هي أرذل الصفات في الرجل التونسي ... تهمة تطير معها الرقاب لو لم يتراجع قائلها ... الطحّان ... هو الخائن سياسيا ... والديوث إجتماعيا ... والواشي أمنيا ...
عذرا أصدقائي بالمشرق ... فنحن لا نعجن خبزنا بالطحين ... بل إستعرنا الإسم من فرنسا ليصبح الفارينة ... مفارقة عجيبة أن فرنسنا الكلمة ... وإتهمنا من يتعامل مع فرنسا بالطحين ... لا يمكن تفسيره سوى بالطحين ...
مؤخرات الفتيات تهتز جيئة و ذهابا ... يمكنك معرفة الدرجة الإجتماعية لفتاة من خلال ليونة مؤخرتها ... نتيجة مغامرتي أني صرت خبيرا في المؤخرات ...
قلب كبير يشقه سهم تتقاطر منه قطرات دم ... حروف بالفرنسية ... حافظ + فاطمة = حب للأبد ... فاطمة ؟؟؟؟ فاطمة التي كسرت قلبها يوم ودعتها عند البئر منذ أيّام ... تعلّقت بقدمي ألا أذهب ...
شعرها الأصفر وعيناها الزرقاوان ... كل أهل قريتنا على تلك الشاكلة ... ملامحنا أروبية سرقت طبيعتنا القاسية منها الجمال ... العرق الأشقر متواجد بكثرة في تونس ... لا أحد يعرف مصدره ... إذا أردنا الفخر ننسب أنفسنا للأندلس .. وإذا أردنا الإنتساب أكثر لهذا التراب تاريخيا ننسب أنفسنا للموحدين الوندال ... أثارهم لا تزال تشهد على حضارتهم في قريتنا ...
بينما يتهمنا البعض الآخر بأننا أحفاد زنا جدّاتنا مع جيوش الغزات يوما " أولاد العسكر " ... أو ضحية إغتصاب قراصنة بيض لهن يوما ... لكن الأكيد أننا منذ قرون ونحن هكذا ... جلود محروقة وعيون زرق وشعر أصفر .... خليط عجيب ...
فاطمة هي الوحيدة التي كان جلدها أبيض ناصعا ... كيف لا وهي حفيدة بوشوشة الغني من إبنه الوحيد ... ووريثته الوحيدة أيظا ... المستوى الإجتماعي يؤثر على منسوب الجمال ...
فاطمة ... ؟؟؟ العشق الممنوع ؟؟؟ هي تحبني فعلا ؟؟؟ لم أقدر يوما أن أحبها ؟؟ ربما توقيا من كسرت قلب يعرف صاحبه أن لا مستقبل لتلك العلاقة ...
تلك الدمعة التي أحرقت خدّها وأنا أتركها وحيدة عند البئر مسرعا الخطى لألحق بسيّارة النقل الريفي ... تلك الورقة النقدية التي دسّتها في يدي كانت آخر لمست بيننا ... وهي آخر ما أملك ...
قالت لي لو عدت يوما أن أجلب لها قصص " عبير" الرومانسية ... طريقة جميلة كي لا تجرح كرامتي ... بدأ صوتها يهدهدني ... حركات الطيور بجانبي تدغدغ جفوني ... النسيم يسحبني لعالم آخر ... أغمضت عيني وتهت في نوم عميق ... أحلام إختلطت بكل الأصوات حولي ... منبهات و صراخ ودوي محركات كلها كانت مؤثرات صوتية في حلمي معدوم الملامح ...
صوت غلق باب سيّارة بعنف ورجل يسب الميكانيك ومن إكتشفه ... فتحت عيني وقد بدأت النسمات الباردة تخز عظامي ... رجل يقارب الخمسين يصارع سيّارة نقل بيضاء ... تبدو اكبر منه سنا ...
نظرت للسماء ... الليل أسدل ستاره ... موعد الحافلة ... محطة باب سعدون ... ضاع أملي في العودة ... بدأ قلبي يفقد نبضه رعبا من ليلة أخرى في هذه المدينة التي لا تريد تركي ... صوت مؤدّب يعيدني للواقع " شباب ... ممكن مساعدة ... يرحم والديك "
إقتربت منه مستفسرا طلبه .... قال فقط دفعة بسيطة تساعد العجلات على الدوران لكي يشتغل المحرّك ... ركب شاحنته ... وضعت حقيبتي في الصندوق الخلفي لها ... وإستجمعت ما بقي في من قوّة ودفعت العربة ... بدأت سرعتها تزيد ليمتلأ حلقي بدخان أسود كثيف تزامن مع صوت محرّكها الذي زعزع صمت المكان ...
أخرج يده من شبّاك الشاحنة ... مناديا بأعلى صوته ... " يرحم والديك " ... لم أسترجع أنفاسي من أثر السعال و****اث حتى غابت السيّارة عن المكان ... الحقيبة ؟؟؟ ملابسي ؟؟؟
بدأت بالجري ورائه ككلب يطارد طائرة ... توقّف في إشارة حمراء ... زادت سرعتي للحاق به ... ما إن قاربت الوصول له حتى إخضرّت الإشارة ... أصوات المنبهات تربك خطواتي ...
أرجل تطارد شاحنة ... كسباق مداومة غير متكافئ... لم تجعلني الإشارات أسلّم أمري ولا هي مكنتني من اللحاق به ... بدأت خطواتي تثقل بفعل الإنهاك وبفعل الربوة التي كان الطريق يشقها ...
ضاعت الشاحنة وضاعت حقيبتي ... توقفت أسترجع أنفاسي ... خنقتني العبرة ... كل شيء ضاع ... بدأت أمشي على غير هدى ... الطريق شبه مقفرة ... لكن الأنوار تسمح لي بالرؤيا ...
المكان يبدو فخما ... أسوار عالية تحجب ما ورائها ... الطريق تعتبر جيّدة مقارنة بباقي أرجاء المدينة ... بدأت أتسلّق تلك الربوة ... وصلت لنهايتها ... نزل يبدو فخما جدا ... علامة إتجاه تشير أنه الشيراتون ... إسمه فقط يرعبني .... خفت من نظرات الحارسين ... فأسرعت الخطى مبتعدا عنهما ...
وقفت أنظر حولي ... يمكنني رؤية كل أرجاء المدينة ... على إمتداد البصر تصلك أضواء المنازل ... أنوار حمراء وخضراء رفافة ... هذه لشركة والأخرى إعلان ... عن يساري يقع مبنى ضخم ... مبنى التلفزيون ... كان يوما ما مخصصا لإحتضان الجامعة العربية أيّام القطيعة العربية مع مصر ... ثم بعودة العرب لها وعودتها لهم ... بقي مهجورا لسنوات حتى حوّلته تونس لمبنى التلفزيون ... بجانبه تقبع وزارة الخارجيّة ... إنقلبت تضاريس المكان فصارت خطواتي نزولا أسرع فأسرع لكن دون وجهة ...
مفترق طرقات ... إشارات لا تشير لشيء ... فقط من يسكن تلك المنطقة يمكنه أن يفهمها ... ومن يسكنها لا يحتاج إشارات ... الفكر التونسي العبيط ...
علامة إتجاه كبيرة تشير للمطار ... وضعت يدي في جيبي أداعب ورقة النقود ... نعم سأقطع تذكرة للذهاب للندن ويتبقى معي ما يمكنني من بدأ مشروع هناك ...
إختلطت دموع اليأس بضحكات السخرية ... لكني لم أتوقف ... قدمي بدأت تؤلمني ... المكان الخالي أشعرني بالوحشة ... سيّارات تطير بجانبي تمنعني حتى التسلية في وجوه راكبيها ... قطعت الطريق بحثا عن حي سكني ... يمكنني من إفتراش أحد أرصفته بشكل من الآمان ...
كحالة بلدنا في فصل الخريف بدأت السماء تجود بخيرها .. تهاطل حمما عليا ... كنت أسعد دوما بهطول المطر لكن في هذا الظرف وفي هذا المكان ... بدأت ألعن حظي ... لم أجد مكانا ألجأ له ...
لا مفرّ من الجري ... الحقيقة سواء أن تجري أو أن تسير أو تقف ... لن تخطأك أسهم المطر ... لكني واصلت الجري ... إختلط الدمع بالمخاط مع سيل الماء المنهمر على رأسي ...
ما إن قفزت فوق الحاجز الحديدي للطريق السريعة مقتربا من إحدى العمارات أختبأ فيها ... حتى توقف المطر ... نظرت للسماء أعض شفتي السفلى ... كأني أهدد السماء بالإنتقام من تآمرها عليا ...
لم أتمالك نفسي من الضحك ساخرا من حظي العاثر ... خلعت قميصي أعصره علّه يجف قليلا ... حذائي الرياضي الفخم تحوّل لونه من الأبيض إلى البني بفعل الطين ... جواربي القصيرة صارت سوداء حتى إختفت ماركتها ... بنطالي الرياضي الرمادي إلتصق بلحمي حتى صار يخزني ...
أروع إستقبال تودعيني به يا قبلة الطامحين ... حتى فرصة النوم على رصيف صلب حرمت منها ... قطعت ذلك الشارع الهادئ ... الماء منحصرا بين قدمي والحذاء يصدر صوتا مع كل خطوة كالمكاء ... المكاء هو الصوت الذي يصدر عندما تنفخ بين راحتيك ... نسميه في تونس " تَعْفيط " ... وهي حركة سخرية من غيرك حينما يفشل في شيء ... تضع يدك مقابلا شفتيك وتُعَفّط عليه ونضحك لفشله ...
أنا لم يكفيني تعفيط العالم من حولي ... حتى تطاردني السخرية كلما خطوت ... وجدت حديقة عمومية كبيرة مهملة أمامي ... خلتها ستكون ملجأي لهذه الليلة ... جلست على أحد المقاعد الإسمنتية ... خلعت حذائي أعصر جواربي ...
بدأ الصقيع يقضم أظافري ... رجفة شديدة سرت في مفاصلي ... أغمضت عيني متخيّلا دفء سريري ... علّ الخيال يغالب مرارة الواقع ... صوت هزّ كياني ... بوم ناعقة تقف عند رأسي ... عيناها الصفراوان تراقبان حركاتي ... رقبتها تلف متابعة ما أفعل ...
أصلا أنا أتشائم منها ... أقرف من شكلها ويرعبني وجودها ... كل ذكريات خرفات الرعب التي روتها جدّتي في طفولتي تجسّدت أمامي .... بدأت مسامي جلدي تتحوّل لشوك جارح مع نعيقها .... جواربي في الحذاء وقميصي على كتفي ... ورحت أتسحّب هربا من الروح الشريرة التي تسكنها ... هكذا حدثتني جدتي يوما وجدتي لا تكذب ...
قالت أن الجن تسكن فيها ... تنعق جالبة الخراب ... إبتعدت عنها قليلا ... لحقني صوتها المفزع ... رفعت رأسي رأيتها تحط على عمود بجانبي ...
الأمر صار مؤكدّ الجن سينهي مغامرتي في هذا البلد الغريب ... حثثت الخطى علها ترحمني ... لكنها تصر على مطاردتي ... بدأت الصورة تتضح ... هي جلبتني لمصيدتها ... فكرة ترك القرية ... الملابس التي أرسلها لي حاتم إبن عمي من الخارج بعد طول خصام ... خاتم أمي الذي رهنته عند صلاح لأتمكّن من السفر ... كل التفاصيل تؤكّد أنها من تنسيق قوة عجيبة ...
هذا النحس الذي طاردني منذ قدومي ... ضياع ملابسي ... عينا ذلك الرجل صاحب الشاحنة تشبه عيني البوم ... لم يكن رجلا ... كان روحا ... كان جنيّا ... بدأت أحث الخطى مبتعدا عن الأشجار القليلة في الحديقة ...
كنت أتوقع ان تغرس مخالبها في رقبتي ... ساحة مظلمة وسط الحديقة لا شجر فيها ... هربت نحوها ... إن كان يجب أن تهاجمني فل تهاجمني في مكان مفتوح ... رجل لرجل ... وجها لوجه .... إستبسال الموت ... بدأت أسرع الخطى محاولا العودة لمكان مأهول ...
كتفيا تثقلان كل ما ولجت أكثر ... الأرض تحوّلت لطين زلق بفعل المطر ... قدمي تغوص فيها حتى الكعبين ... يد صلبة تقبض على قصبة رجلي ... توقفت لا إراديا ... كنت أستشعر ملمسها البارد يطبق على كاحلي ...
عجز لساني على نطق الشهادة ... حتى يدي عجزت عن رسم الصليب ولا رقبتي تحرّكت للخضوع على شريعة موسى ... توقّف الدم في عروقي سأموت كافرا ... أردت الفرار ... حاولت الجري لكنها كانت تمسكني ... الطين والرعب والبرد منعاني من الهرب ... تعثّرت قدمي ووقعت على وجهي أشرب من طين الأرض ... نظرت خلفي ... إن كنت سأموت فلأمت وعيني تنظر ...
يد قوية لا تزال تمسك بقدمي ... رجل عجوز يحاول الزحف نحوي ... آهات ألم تصدر من حلقه المتحشرج ... يريد أن يقول شيئا ... هل هو بشر أم البومة تجسّدت لي كذلك ...
رفعت جسدي الممرغ في الطين محاولا الوقوف ... كلمات قليلة تخرج من حلق الشيخ ... " أرجوك ساعدني ... بيتي ليس بعيدا من هنا " ... كنت أنتظر أن يترك قدمي لأنطلق هاربا ...
وقفت متأهبا للفرار عندما لحقتني كلماته " عاوني يرحم والديك " ... البوم أسلمت ... نعم القادر القدير قادر على كل شيء ... وضعت يدي بين إبطي الشيخ ساعدته في الوقوف ... بدأ ألمه يتحوّل لصراخ ... صراخ يؤكد انه كائن حي مصاب ...
جاهدت حتى خرجنا من بركة الطين تلك ... وصلنا حافة الطريق ... الشيخ مصرّ أن أجلب له كيسا وقع منه ... تركته جالسا على الحافة وعدت أبحث عن طلبه ... فرصة للهرب لا يخزني الضمير بعدها ... وجدت فردة حذائي التي كنت سأنساها...
كيس به بعض المعدّات ... تؤكّد انه سمكري ... لعنت الفقر الذي فرض على هذا الرجل العجوز العمل في مثل هذا السن وتلك الظروف ... عدت إليه ... حملته على ظهري ... لم يكن ثقيل الوزن لكني كنت منهكا ...
أنيني بدأ يصل أذنه ... كان يعتذر مني عما سببه لي ... يمينا وشمالا ... للأمام ... كنت أتّبع إشاراته ... شارع طويل في آخره دائرة تحيط بها عمارات ... ليست عمارات تقليدية ... ثلاث طوابق مزينة بالشرفات المدورة ...
كلها متشابهة ... وصلنا أمام باب إحداها ... باب بلوري سميك مغلق ... بجانبه لوحة إلكترونية عليها أرقام ... طلب مني الضغط على أرقام معيّنة ففتح الباب ... لقد عشت هذا المشهد يوما ...
أحد أفلام نادي السينما بالمعهد ... نفس التفاصيل عندما حطّت السفينة الفضائية ... دخلت الباب ... كنت متأكدا .... هي سفينة فضاء لا ريب ... أنوار خافتة عجيبة أنارت بمجرّد وصولنا ... رائحة المعقمات في كل مكان ... بعض النباتات موضوعة على أركان الفسحة المدوّرة ...
باب معدني تعلوه شاشة كتب عليها الرقم صفر ... تقدمت منه حسب طلب من يركبني ... ضغطت على زر به شكل معيّن مقلوب ... فتح الباب ... دخلت مترددا وقد جف الدم في عروقي ... حسب طلب الشيخ ضغطت على الرقم ثلاثة ...
أغلق الباب وبدأت رحلت الرقي للسماء ... لقد طارت السفينة ... واحد ... إثنان ... ثلاثة ... رعبي من حركة الصعود أنساني ثقل حملي ... توقف التابوت المقدّس بعد رجة خفيفة وفتح الباب ... ممر عريض .. تلمع أرضيته المرمرية ... يتوسطه بابان ... ما إن خطونا خارج الصندوق وأغلق الباب حتى إشتعلت الأنوار من تلقاء نفسها ...
فمي فتح عن آخره ... المبنى فخم لدرجة أني عجزت عن تخيّل رابط واحد بين هذا الرجل وذلك العالم ... لا بد أنه يشتغل حارسا أو معينا في إحدى الشقتين ... بدأت السير بخطى مثقلة من الحمل في تفكيري ... الباب رقم 6 ... باب خشبي بني عريض ... عريض لدرجة لم أتقبّلها ...
دققت الجرس ... كنت أسمع خطوات قادمة نحوي ... أردت أن ألقي ذلك الرجل وأهرب ... غير أني لا أعرف طريق العودة ... فتح الباب لتطلّ منه سيدة تضع وشاحا على رأسها .... تلف وسطها بمنديل غسل الأواني ... الخادمة ... لا بدّ أنه زوجها ...
نظرت لي متعجبة من وجود شيء على شاكلتي في ذلك العالم العجيب ... كلمات صارعت لكي تخرج من فمي " أصلي لقيت زوجك واقع على الأرض " ...
رفعت المرأة عينها ... إصفرّ وجهها ... لتتركني واقفا عند الباب صارخة ... " مادام فريال ... مادام فريال ... إلحقي سي توفيق "
سي توفيق ؟؟؟ هذا الشيء الذي أحمله إسمه السي توفيق ؟؟؟ هو إسم توفيق وحده يعتبر غريبا على شكله ناهيك لو ربط بالسيادة ...
بدأت أكتشف ما يظهر لي من محتويات البيت ... أثاث فخم ... لم أتبينه بعد حتى هجمت عليا سيدة ... شعرها أحمر ... وجهها أبيض ناصع ... شفتاها حمراوان على شكل هلال ... تنقصه نجمة على أنفها ونرفع شعار الجمهورية ....
هجومها أربكني وشكلها ولهفتها ... " توفيق خير ... مالك ؟؟؟ " ... لم تنتظر أن يجيبها زوجها ... هجمت عليا مرعوبة ... " عملت فيه إيه ؟؟؟ حصلو إيه ؟؟؟ " وكادت أن تنشب أظافرها في وجهي ...
لولا خشيتي أن يموت ذلك الرجل فأعدم بتهمة لم أرتكبها ... لألقيته من على ظهري وصفعت صفاقتها ... بصوت ثابت " أنا لقيته واقع على الأرض في الحديقة ... هو طلب مني أوصله هنا ... لو حتخدوه خدوه ..وإلا حأسييه وأمشي " ...
تراجعت حدة نظراتها نحوي ... أفسحت لي المجال للدخول ... كدت أنزلق من نعومة رخام الأرضية ... بدأت المرأة تقودني في الممر ... كنت أنظر للأرض خجلا وتعبا ... غرفة نوم تضاهي مساحتها ساحة مدرستنا ... سرير أبيض مدور يتوسطها ...
حاولت وضع الرجل المصاب عليه ... جاهدت أن لا أزيد ألمه ... أجلسته بعناية ... أردت أن أرفع رجليه من على الأرض ... لعبة صوفية بنية على شكل كلب تقبع فوق السرير ... دفعتها بيدي لأفسح المجال له ... بدأت تعوي هاربة من حركتي ... ثم كثر نباحها ...
هو كلب حقيقي ... عالم عجيب بكل ما فيه ... كلب لا يتجاوز حجمه راحة يدي ... تذكّرت كلاب قريتنا ... يمكن أن يبتلعه أحدهم وهو يتثائب ...
صوت مفزوع يصلني من داخل الغرفة ... السيدة تحدّث الطبيب ... تؤكد عليه سرعة القدوم ... الثاني كذلك ... ثم الثالث ... نعم ثلاث أطباء ... " سي توفيق متاع زبي هذا" شكله كمتسوّل ... إستنفرت وزارة الصحة لأجله ...
كثرة الأثاث والديكور بالغرفة منعني من إكتشاف كل تفاصيلها ... لم يبالي بوجودي أحد ... إسورة ذهبية على طاولة السرير تغمزني أن أسرقها ... لن يهتم أحد ثم سأنسحب ... هممت بذلك لكني خفت ...
فريال الصهباء هذه لم تترك هاتفها ... لم يبقى سوى الرئيس ومبعوث السلام بليبيا لم يعلما بالحادث ... إنسحبت من الغرفة ... باب الشقة مفتوح ... أسرعت الخطى هربا من ثقل الغربة في هذا المكان ... فتاة حمراء صغيرة تقف مشدوهة وقد أفزعت الجلبة نومها ... رعبها من وجود أحد أهل الكهف أمامها منعها من الصراخ ... لم أفهم سبب نظرتها ...
وقفت أمام صندوق الزمن ... ضغطت على الزر ... فتح الباب بسرعة ... وقفت أمامه ... ترددت كثيرا في الدخول ... خفت أن أخطئ في شيء فأحبس داخله ... إنتظرني حتى ملّ الوقوف فأغلق أبوابه نحوي ...
إلتفت يمينا وشمالا ... إشارة خضراء عليها رسم رجل يجري ... " خروج النجدة " ... النجدة ... النجدة ... هكذا كانت تصرخ روحي مهرولا نحوه ... سرداب مظلم أنار إحتراما لهيبة قدومي ... سلالم طويلة نزلتها قفزا هربا ... وصلت الباب ... مغلق وعاند محاولاتي لفتحه ... يفتح بالرقم السري ... لا أعلم السر لكني تذكّرته ...
شممت هواء الحرية المنعش ... كدت أسجد على الأرض مقبلا إياها شكرا على السلامة ... الحي هادئ جدا ... ضوء خفيف يرمش بهدوء " مقهى الملوك 24/24" ... نعم أنهم الملوك ... لا شك في ذلك .... من يسكن هذا المكان لا يكون سوى ملكا ...
تقدّمت منه ... مكان مفتوح ... فيه بشر ... لا يهم إن كانوا من سكان المكوكات الفضائية المهم أن أشعر بالأمان حتى نهاية هذه الليلة ... ومع أوّل ضوء سأرحل ... غابتي ..والأغنام ... الحياة في قرية أبسط بكثير ... لا تجوع فيها ولا تظمئ... لا خوف عليا ولا يحزنون ...
إقتربت من الباب ... جرّتان كبيرتان عن يمين ويسار الباب ... جلست القرفصاء بجانب أحدهما ... مغص بدأ يقطع أمعائي ... نعم هذا ما ينقص لتختم آلام هذه الليلة ... الأكل من القمامة ... العصير الفاسد ... الرعب ... الصقيع في القدمين ... كلها إجتمعت لتستخرج من بطني إسهالا يستحيل تأجيل نتيجته ...
لم أجد من بد سوى المقامرة ودخول المقهى ... دفعت الباب الذي رسمت عليه كلمت ... إدفع ... لم ينتبه أحد لدخولي ... بضعة شباب يتابعون مقابلة كرة قدم في الطرف الآخر من العالم ...
بابان أحدهم عليه رسم رجل والآخر امرأة ... هو الحمام لا ريب ... دفعت باب الرجال ... الأنوار في هذه البقة من المجرّة كلها تعترف بقيمتي ...تنير لمجرّد قدومي ... الحمام من كثرة أناقته وفخامته إستحيت أن أقضي حاجتي فيه ...
لكن الطبيعة هزمتني ... ذهب الألم وشفيت وعوفيت ... كنت انوي الخروج متسللا كدخولي ... منظر مرعب في المرآة ... خنزير خرج من حصة تمرّغ في الطّين ... لست أنا حتما ... هي صورة إشهارية عن مضار شرب مياه المستنقعات لا شك ...
حرّكت يدي .. قفزت ... إنه أنا للأسف ... إقتربت من الحوض ... الماء كما النور .. يقدّر وجودي ... الحنفية تعمل من تلقاء نفسها ... غسلت يدي ... تحوّل لون الحوض للأصفر ... الصابون متوفّر ... تخلّصت من الطين على وجهي الماء الساخن شجعني بعث الروح في أوصالي ...
بجانب الباب ... صندوق معدني كبير ... أثارني سبب وجوده ... كنت سأخرج لكن رغبتي في إكتشافه جذبتني ... مررت يدي فوقه بجانبه ... ما إن وضعت يدي تحته حتى نفخ .. أرعبتني الحركة المفاجأة ... هواء حار لفح يدي ...
فكرة لا تخطر على بال الجن الساكن في البومة نفسها ... خلعت ثيابي ... غسلتها في الحوض ... الماء موجود والصالون متوفر بكثرة .... ثم إستعملت المجفف لتجفيفها ... معتزا بذكائي ... لا أعلم كم إستهلك تخفيف حذائي من جهد ذلك الجهاز .... أفرغت حاوية المناديل ... ملأتها بالماء الساخن وإستحممت ... أصلا رحت أفرك لحمي مستخرجا الوسخ خيوطا وكورا ...
تأكدت قبل خروجي أني لم أسبب ضررا لأحد ... كل شيء عاد كما كان ... فتحت الباب برفق .. متأهبا للتسلل ... الكل مركز مع المقابلة ... كافيه لا عمّال فيه ... نصف خطوة تفصلني عن الباب وأهرب ... سأنعم بدفئ ونظافة نسيتها ...
ما إن وضعت يدي على الباب ... حتى قابلتني مجموعة من الشباب من الجنسين ... هم داخلون وأنا خارج ... جلبتهم وضوضائهم سحبت نظر النادل الذي تقدّم مستقبلا الركب ببشاشة ...
وجودهم منعني من الخروج كما أن آثار البلل على ملابسهم تأكّد أن المطر سيعاود حملته على رأسي ثانية ... ترددت في الخروج ... النادل لم يفهم أين كنت ... إعتقد أني وافد مع الوافدين ... فتبعتهم حسب أمره ... يعني مالذي يمكن أن يحدث ؟؟؟؟
ملابسي نظيفة وشكلي مقبول ... وسني ليس بعيدا عن سنّهم ... تحلّق الجمع حول طاولة ... فجلست قربهم ... النادل يشير من وراء المصرف ... " قهوة الأولاد كي العادة " ... إشارات بالموافقة من الجميع ...
حشرت رأسي بين كتفي خوفا أن يكتشفني ... رحت أتابع التلفاز كأني أفهم ما يجري ... أذني تلتقط دبيب النمل ... عينا ذالك الشاب لم تخطأ وجودي ... تقدّم مني مسرعا كأنه يطارد هدفا كاد يفلت منه ...
وقف يسألني عن طلبي ... وضع أمامي ورقة عليها عدة رسوم .... تحسست تلك الورقة النقدية الندية في جيبي كأني أودعها ... أملي الأخير في العودة لقريتي ذهب قربانا لكرامتي ... نظرت على الطاولة ... المشروبات .... سعر القهوة 1.5 دينار ... الحلويات تتراوح بين 1 و 5 ... الأسعار تبدو مقبولة ...
عملا بالمثل التونسي الشهير " إلي مات على شبعة لا قام " ... نقص مليم واحد من ثمن التذكرة سيحرمني حق العودة ... إذن فلتكن نهاية مميزة لهذه الليلة العجيبة ... طلبت منه قهوة كبيرة بالحليب ... وقطعتي كيك بالشكولاطة ... وعلبة سجائر ...
نعم ... سأنفق كما ينفقون ... أكلت وشربت ودخّنت ... بل صرت أصفّق وأتقهر وأتابع مقابلة كرة القدم ... نعم هم ليسو أحسن مني ...
شبعت بطني ... أجّلت التفكير في مصيري ... جلت بنظري في صفوف الحاضرين ... ملابس فخمة رغم كونها عجيبة ... سراويل ممزقة ... بنات تدخن الشيشة ... فتيان أهملوا قص شعرهم .... أعمارهم لا تتجاوز الثامنة عشر لو أسرفت في التقدير ...
الساعة الثانية ونصف فجرا ... ماذا يفعلون ؟؟؟ ... أكيد أنهم تسللو خلسة من بيوتهم ... قرب المقهى من المباني ... جعله وكرا لهم ... مجموعات مجموعات يتحلّقون حول طاولات ... النادل يعرفهم بالإسم ويبدو أنهم متآلفون معه ... فكّرت بسؤال النادل إن كان بإمكانه إيجاد عمل لي ؟؟؟
ماذا سأعمل هنا ؟؟؟ وأين هنا هذه ؟؟؟ لا الناس تشبه الناس ولا المباني تشبه المباني ؟؟ لولا الكلام الذي يشبه لهجتنا لتيقنت أني خرجت من القارة أصلا ... طبقة غنية ثرية حاكمة متحكمة نأت بنفسها وذويها عن الخراء المنتشر في البلاد ...
سأذكر هذه الليلة ... ربما ستكون إحدى نوادري عندما أكبر وأصبح بعمر صلاح ... سأرويها للشباب وسيعجبون بي .. تستحق ما أنفت فيها ...
إنتهت المقابلة ... خرج الجميع ... بقيت أنا والنادل وشاب آخر ... صوت المطر يؤجل مغادرتنا ... آذان الفجر يؤكد لي أني لم أهاجر ولم أترك أرض الوطن ... على أقل تقدير في المحيط المغاربي ... عيني مركّزة على التلفاز أداعب سيجارة لم أشعلها ...
رفعت عيني فرأيت ذلك الشاب ينظر نحوي ... كأنه يتابعني ... خفت منه ؟؟ لا أدري لماذا شعوري بالنقص أمامهم يحرجني ... أشحت بنظري ... لكني كنت اشعر بعينيه تراقباني ... وإن يكن ... كما قال عادل إمام إن كنت أملك ثمن ما أستهلك فليسو خيرا مني ...
نظرت في عينه مباشرة فكأنما غمزت صنارته ... وضع إصبعيه حول شفتيه يطلب سيجارة ... إنكساره أمامي جعل قلبي يرقص طربا ... أشرت برأسي بالموافقة ... حمل فنجان قهوته وإقترب مني مبتسما على حياء ... النادل رسم بسمة سخرية على وجهه ...
جلس قبالتي ... مددت له السيجارة ... أشعلها ... تبسم لي وقال " يرحم والديك " ... إسمه يوسف ... يدرس بالجامعة لكنه لا يريد المواصلة ... جسمه نحيل جدا ... أصابعه ترتعش ... يسكن هنا ... له أختان واحدة أكبر والثانية أصغر ...
إن كنت أطلقت العنان لشهوتي في الإنفاق ... فلن أكبح جماح كذبي ... رحت أروي خرافات عن حياتي وسبب قدومي لهذا المكان ... أصلا أنا لم أصدّق نفسي لكنه صدّقني ...
بدأ النور يطغى على الكون ... حركة بعض السيّارات تنطلق ... تقدّم منا النادل يطالب بحقه ... مددت له الورقة النقدية ... نظر في عيني يوسف ... " دجو ؟؟؟ كيف العادة ؟؟؟ حسابك ثقل برشة ؟؟؟ " ....
ورطتي بالكذب وإنكسار عيني دجو ... جعلتني أطلب من النادل أن يأخذ ثمن قهوته أيظا... هي تناكت تناكت ... أقل شيء أترك إنطباعا في ذاكرة هذا الشاب ... أعاد لي بضع قطع نقدية ... تغيّر وجهه لما أخذتها منه ...
وخرجت ... كنت أخطط لشراء بعض الخبز و الجبن وقارورة ماء والعودة على قدمي للقرية ... 170 كلم لا غير ... ثلاث أيّام سيرا ...
فقط سؤال واحد أطرحه ؟؟؟ أين أنا ؟؟؟ ... من أين أذهب إلى أين ؟؟؟ ... لحقني دجو يشكر كرمي معه .. أردت أن أسأله ؟؟؟ ... لكني خجلت ... قطعنا الشارع ... نافورة هامدة ملأ المطر حوضها ...
ودعني عندها وإنصرف داخلا لإحدى العمارات ... مررت من أمام العمارة التي يسكنها سي توفيق ... وقفت أنظر لشرفاتها المدورة أودع ليلة ستؤثث ذاكرتي لسنين ... صفّارة سيّارة إسعاف تهز المكان وتربك حركاتي ...
تسبقها سيّارة أخرى تبدو غالية جدا ... نزلت مدام فريال منها على عجل .. وجهها أصفر والحزن يبدو على محيّاها .... وإلتحقت بالمسعفين اللذان فتحا الباب الخلفي للعربة ... سي توفيق مات ...
أردت أن ألقي نظرة الوداع على من كان سببا في أحداث هذه الليلة ... سرير طبي كامل ... إقتربت منه غير آبه ... سمعت صوت أحد المسعفين ... " لاباس سي توفيق ما تخافش " ... لم يمت ...
نظرت في عينيه ... لا أدري كيف نطقت متسائلا " سي توفيق لاباس ؟؟؟ " ... نظر في عيني مستغربا ... وأمسك يدي ... كان المسعفان يدفعان عجلات السرير وهو ييسحبني ... نفس قوّة الضغط على قدمي ... ليلة أمس ...
دخلنا العمارة ... باب المصعد ... الطابق الثالث ... باب الشقة ... الممر ... غرفة النوم ... حتى وصلنا لسريره لم يترك يدي ... جرّني معه عنوة وسط دهشة مدام فريال ... إنسحب المسعفان ... بقيت أنا وهو والمدام ... لم يترك يدي رغم إغلاق عينيه ...
كل ما حاولت سحب يدي منه ... نطق جهاز يطن عند رأسه ... حركة من يد فريال تمنعني من تكرار المحاولة ... سحبت كرسيا وأجلستني عليه ... كنت أنظر لمظهر هذا الشيخ ؟؟؟
سي توفيق ؟؟؟ هل يعقل ؟؟؟ شكله لا يتطابق مع المكان ولا مع سكانه ؟؟؟ مثلي تماما ؟؟؟ خرجت فريال تحدّث الخادمة ... وجهه بدا مألوفا ... ربما هو مجرّد شعور بالرحمة نحوه ... بدأ ضغط أصابعه يخف عن معصمي ... تسللت يدي بحذر ... إنتظرت قليلا أراقب الجهاز عله يطن ثانية ... على أطراف أصابعي خرجت أتسلل ...
رغم حذري فقد سحبت خطواتي مدام فريال لتقابلني في الممر ... أصابعها وعيناها تسألني عما حدث ... وضعت كفي تحت خدي مشيرا أنه نام ... أبشر وجهها لكنها دخلت لتتأكد من صحة كلامي ... بدأت أسرع الخطى نحو الباب ...
قبل وصول يدي لمقبضه لحقني صوت صارم رغم همسه " وين ماشي ؟؟ " ... تسمرت مكاني ... كدت أن أرفع يدي للأعلى مستسلما ... ركبي إضطربت ... نظرت خلفي ... مدام فرال تحث الخطى نحوي ...
- إنت رايح فين ؟؟؟
- ماشي